مقالات

كيف يُدار الإعلام السعودي في ظل الرقابة؟

جمال خاشقجي، الإعلامي السعودي “المثالي” والذي كان مؤمناً تمام الإيمان بالبلاط الملكي وبالدولة السعودية إلى أن اتخذ خياراً مختلفاً مع حلول الربيع العربي فسلك مساراً انتقد فيه سياسات آل سعود القمعية خصوصاً حملات اعتقال نشطاء الرأي والحقوقيين السعوديين المتتالية في ذلك الحين. هنا قرر آل سعود أن صوت خاشقجي آن له أن يخفت وحينها ارتُكبت واحدة من أبشع الجرائم على مر التاريخ، قُتل الصحافي السعودي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول وقطع جسده إرباً إرباً ثم أٌخفي على أمل أن تمحى آثار الجريمة التي أثارت لاحقاً غضباً دولياً وتسببت في أسوأ ازمة علاقات دولية للسعودية.

هذا هو ثمن حرية إبداء الرأي والانتقاد في السعودية ولعل حكاية خاشقجي تفسر إلى حدٍ كبير كيف تعتمد السلطات سياسة كمّ الأفواه وتسعى بكل قدراتها إلى ترهيب الصحافيين وتقييد حريتهم في التعبير عن آرائهم ومنعهم من ممارسة مهنتهم التي تلعب دوراً أساسياً في مراقبة الحكومة ومحاسبتها.

سنواتٌ طويلةٌ ومناخ الخوف يسيطر على أرجاء السعودية. قمعٌ وحشي يعاني منه المواطنون، يدمر حقوقهم ورفاهيتهم ويحرمهم من حقهم في التصريح عن احتياجاتهم. أما السلطة الرابعة فكما الشعب، تُقمع ويُسلب حقها في تسليط الضوء على مشاكل المجتمع والحكومة، بل على العكس فإن الحكومة ذاتها تحاسب أبناء السلطة الرابعة فيسجنون وربما يعدمون أو يقتلون إن صدر منهم أي انتقادٍ يطال السلطات أو أحداً من أفرادها. في السعودية لا حرية للصحافة والصحافيين بل تسير أقلامهم تحت جناح آل سعود الذين يتحكمون بالأخبار ومصادرها وكيفية كتابتها.

السلطات تحتكر الخطاب الإعلامي المحلي

 في السعودية لا يوجد منبرٌ إعلامي خارجٌ عن سيطرة الحكومة، كل الصّحف والمؤسسات الإعلامية كالقنوات التلفزيونية والإذاعية خاضعة للرقابة وموجهة بما يرضي بن سلمان وأعوانه.

تدير الهئية العامة للإعلام المرئي والمسموع جميع وسائل البث المحلية، فتتولى “تنظيم المحتوى الإعلامي الذي يُنتج أو يُنشر أو يُعرض أو يُبثّ من خلال وسائل الإعلام ويمكن الوصول إليه من داخل المملكة، وتصنيفه، والمساهمة في رفع جودته بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة وفقاً لما تحدّده اللائحة”، بحسب المادة الخامسة من نظام الإعلام السعودي، النظام الذي أقر عام 2017 بهدف تنظيم المحتوى الإعلامي وتطويره كي يكون محتواه “متسقاً والسياسة الإعلامية للمملكة” بحسب المادة الثانية منه.

 نظام الإعلام السعودي لا يكتفي بفرض قيوده على المؤسسات الإعلامية فحسب، بل يُملي بضوابطه على كل من يمارس نشاطاً أو مهنة في مجال الإعلام فيُفرض عليه الالتزام بما ورد في “سياسة المملكة الإعلامية” و”عدم المساس بالملك أو ولي العهد” و”عدم التعرض إلى ما من شأنه الإساءة إلى علاقات المملكة بالدول العربية أو الإسلامية، أو الصديقة”، كما ذكر في بنود المادة الخامسة من النظام.

أما التراخيص اللازمة لأنشطة الإعلام المرئي والمسموع فتمنحها الهيئة العامة ويحق لها تعديلها، أو تعليقها أو إلغائها، أو تجديدها بحسب المادة الثامنة من النظام.

الانتهاكات ضد الصحافيين: اعتقالٌ وتعذيب

ينص نظام الإعلام السعودي في مادته السابعة عشر على معاقبة كل من يخالف أحكام النظام إما بغرامة مالية أو بإلغاء الترخيص أو بالإيقاف عن مزاولة المهنة لمدة لا تزيد على ستة أشهر.

هذا ما ينص عليه الحبر على أوراق هذا النظام أما تاريخ السلطات في التعامل مع ما تسميه مخالفات إعلامية فلا يشبه المواد المنصوص عليها حيث يسجن الصحافيون وأحياناً يقتلون بأبشع الطرق عقاباً على انتقاد السلطات والإضاءة على انتهاكاتها.

عام 2019، حلّت السعودية في المرتبة الثالثة للبلدان التي تسجن أكبر عدد من الصحافيين وفق التقرير السنوي الصادر عن لجنة حماية الصحافيين، حيث قامت باحتجاز 26 صحافياً على الأقل. ثمانية عشر صحافياً ممن احتجزوا لم توجه لهم أي تهم أما الذين مثلوا أمام المحكمة فقد صدرت ضدهم حينها أحكام بأسلوب سري وغالباً مستعجل وفقاً للتقرير.

أما صحيفة “الغارديان”، فقد أعلنت عن تقارير طبية احتوت على أدلة تفيد بقيام السلطات السعودية بضرب سجناء سياسيين من ضمنهم أربعة صحافيين وتعذيبهم بالحروق وتجويعهم، انتهاكاتٌ جاءت ضمن حملةٍ قمعية شنّها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ذلك الوقت.

تجاوزات السعودية لا تقتصر على الصحافيين من أبناء البلد فحسب بل تتجاوزها لتشرّع لنفسها محاسبة الصحافيين من دولٍ أخرى. عام 2024، اعتقلت السلطات السعودية صحافياً تركياً بعد إدلائه بتصريحاتٍ تتعلق بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

الصحافي التركي كورتولوش دميرباش كان يتواجد في مدينة الطائف بالسعودية لتغطية مباريات المنتخب التركي للشباب تحت 19 سنة قبل أن يتم اعتقاله من قبل السلطات بسبب تصريحاتٍ لم يتم تحديدها، ليُطلق سراحه بعد حوالي أسبوع نتيجة تحركاتٍ كثيفة من السلطات التركية.

لم يكن دميرباش أول من اعتقل من الصحافيين العرب لدى السلطات السعودية، فمع حلول عام 2025 يدخل الصحافي الأردني عبد الرحمن فرحانه عامه السادس داخل سجون آل سعود. فرحانه اعتقل عام 2019 من منطقة الدمام بينما كان متجهاً إلى مطار الملك فهد الدولي، أخفي لأكثر من عام ووجهت له بعدها اتهاماتٌ بدعم الإرهاب في إشارة للمقاومة الفلسطينية ليحكم عليه بالسجن 19 عاماً قبل أن تخفض لاحقاً إلى 9 سنوات.

الكلمة تكلّف الصحافيين حياتهم

صالح الشيحي، كاتبٌ صحفي سعودي، مارس دوره الإعلامي كما تنص أهداف المهنة السامية فانتهج خطاً إصلاحياً في كتاباته ومشاركاته الإعلامية والمنبرية المختلفة ليجد آل سعود أن مكانه يجب أن يكون داخل سجونهم.

الشيحي الذي كان يكتب زاوية يومية في الصفحة الأخيرة من جريدة الوطن السعودية التي تعنى بهموم الشارع، انتقد السلطات السعودية أثناء مشاركته في برنامجٍ بثته إحدى القنوات السعودية، ونادى بملاحقة ومحاسبة المسؤولين المتورطين بقضايا الفساد. وبدلاً من سعي الحكومة إلى الإصلاح فضلت اعتقال الصحفي السعودي والحكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات ومنعه من السفر لخمس سنواتٍ أخرى بعد انتهاء محكوميته.

بعد سنتين من اعتقاله أفرج عنه دون أن يتضح ما إذا كان إفراجًا مؤقتًا أو تامًّا ليموت بعدها بشهرين فقط في ظروفٍ غامضة. وسائل الإعلام السعودي حاولت إقناع الرأي العام بأن سبب وفاة الشيحي هو إصابته بفيروس كورونا قبل ثلاثة أسابيع من وفاته، إلا أن الناشطين أكدوا أن حالته الصّحية كانت قد تدهورت منذ أن كان داخل السجن.

أما الصحافي السعودي تركي الجاسر، فقد قتل على يد سجّاني معتقلات آل سعود بعد أيامٍ فقط من مقتل خاشقجي عام 2018. قتل الجاسر بعنفٍ داخل السجن تحت وطأة التعذيب بعد أن اعتقلته السلطات السعودية بتهمة الكشف عبر حسابٍ وهمي على تويتر عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها المسؤولين في الحكومة ضد الناشطين والمعبرين عن الرأي.

الشيحي والجاسر ليسا إلا مثالان بسيطان عن قمع الصحافيين الذين يعذبون ويقتلون تحت التعذيب في معتقلات آل سعود، إذ أن للسلطات تاريخٌ حافل بالتنكيل بهم وسجنهم وممارسة الانتهاكات ضدهم حتى يلقوا حتفهم على أيدي سجّانيهم.

الذباب الالكتروني وصناعة الرأي العام

عام 2017، تفجرت أزمةٌ بين الحكومات عرفت بالأزمة الخليجية. السعودية والإمارات والبحرين وغيرها من الدول أعلنت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة  وتطبيق الحصار عليها. بعد عامٍ من اندلاع الأزمة تبيّن أن “الذباب الإلكتروني” بإدارةٍ رسمية سعودية وإماراتية كان له الدور الأبرز في صناعتها وتسويقها.

بشكلٍ كبير تعتمد السعودية على الذباب الإلكتروني في سياساتها لانتهاك الحريات وتوجيه الرأي العام وقمعه من خلال هجماتها الإلكترونية، توجهه لقلب الحقائق والتلاعب بها ولتكوين رأي عام مبني على الأكاذيب والمعلومات المضللة. يعمل الذباب الإلكتروني على مهاجمة فكرة ما أو تكريسها، فيدعم آراء الحكومة ويدافع عن سياساتها فيما يهاجم كل منتقدٍ أو مطالبٍ بالحقوق وإن كانت عادية.

يدير شبكات الذباب الإلكتروني مسؤوليين في الحكومة وتتضمن جيوشها موظفين حكوميين يسعوّن إلى مهاجمة المعارضين والترويج لأجندة الحكومة. تتمثل أنشطتها في نشر تعليقاتٍ مسيئة وتشويه سمعة الناشطين والمعارضين السياسيين ونشر المعلومات المغلوطة لتضليل الرأي العام وزرع الفتنة من خلال نشر محتوى يثير التوتر والكراهية.

ولا تكتفي السلطات في استخدام الذباب الإلكتروني للتأثير على الرأي العام فيما يخص القضايا السياسية والاجتماعية، بل تسعى أيضاً إلى توجيه آرائهم فيما يخص الأحداث الرياضية والثقافية فتقوم الجيوش الإلكترونية إما بدعم أو مهاجمة ملفات استضافة البطولات الرياضية بحسب مصالح الحكومة.

عام 2021، سعت السعودية للاستحواذ على نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي. حينها استخدمت السلطات الجيوش الإلكترونية للترويج للصفقة، حيث تعرّض المعترضين على الصفقة من مشجعي النادي لانتقاداتٍ واسعة ولاذعة من حساباتٍ سعودية مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي.

إذاً تمارس السلطات السعودية رقابة شديدة على وسائل إعلامها، تتلاعب بالأخبار وتوجهها بما يتناسب مع سياساتها ومصالحها السياسية والاجتماعية وتفرض قوانيناً تتماشى مع أهوائها تقيّد من خلالها حريات المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة، تعتقل الصحافيين وتحاسبهم إذا ما قرروا التعبير عن آرائهم وانتقاد السلطات ومحاسبتها باعتبارهم السلطة الرابعة فيكون مصيرهم الاعتقال أو الموت. أما الصحافيون الأجانب فيتعرضون للمضايقات والتهديدات في حال انتقاد الأو فضح جرائمها.

اليوم ىن الأوان لتسعى السلطات السعودية لتعزيز حرية الإعلام والصحافيين، إصلاحاتٌ كثيرةٌ بات من الواجب تطبيقها لضمان استقلالية الصحافة وتعزيز شفافيتها. تعديل القوانين المتعلقة بالنشر والإعلام وإلغاء أي قانون يقيد حرية التعبير هي الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح. الصحافيون اليوم بحاجة إلى مساحة من الحرية تسمح لهم بممارسة مهنتهم كما تقتضي ضمن حمايةٍ قانونية، من حقهم الوصول إلى المعلومات بحرية دون خوفٍ من التضييق أو التلاعب لكي يتمكنوا من الإضاءة على مشاكل المجتمع وممارسة النقد البناء لتسليط الضوء على ثغرات الحكومة وتجاوزاتها. أما السلطات فعليها توجيه تركيزها لإنهاء الرقابة المفرطة على وسائل الإعلام وتوسيع نطاق التراخيص الإعلامية لتشمل مختلف الأطياف السياسية والفكرية للوصول إلى بيئة صحافية حرة ونزيهة تعزز التعددية الإعلامية وتحدّ من القمع والتلاعب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى