العرّاب والانقلاب: كيف استولى بن سلمان على الحكم؟
حقيقة بالغة الأهمية، تلك التي أضاء عليها مقال “الغارديان” البريطانية تحت عنوان (العرّاب على الطريقة السعودية. الانقلاب الذي أوصل محمد بن سلمان إلى السلطة).
الحقيقة تلك اكتشفها محمد بن نايف بعد احتجازه وانتزاع السلطة منه وهي أن “الحرية لا تختلف كثيرا عن الاحتجاز في السعودية”.
وصل إليها متأخراً، بعدما أصابه شيء من القمع الذي كان يقوده ضد أبناء الشعب، حينما كان وزيرا للداخلية وبعدها وليا للعهد.
واستندت صحيفة “الغارديان” البريطانية في مقالها إلى مصادر مقرّبة من بن نايف، مثل سعد الجابري رئيس المخابرات السعودي السابق والمستشار المقرب لابن نايف.
وقدّمت المصادر الكثير من الوثائق عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها بن سلمان للوصول الى السلطة، والتي عممها في البلاد كلها بعد تمكنه من بسط سيطرته المطلقة.
وسردت الصحيفة القصة بما فيها من وثائق منذ الانقلاب الذي بدأ في 5 يونيو/حزيران 2017 باعتقال ولي العهد محمد بن نايف وجميع حراسه الشخصيين، ووضعه تحت الإقامة الجبرية مروراً بيوم 20 يونيو/حزيران حين اقتيد إلى القصر الملكي في مكة لإتمام البيعة.
وبحسب “الغارديان” قام تركي آل الشيخ، المقرب من ابن سلمان، بحبس ابن نايف ساعات طويلة وتهديده لتوقيع خطاب استقالة من منصبه كولي للعهد، وإذا لم يوافق سيتم اغتصاب أفراد عائلته، وسوف يرحّلونه إلى المستشفى كنوع من التهديد بالقتل.
وأضافت الصحيفة أن ابن نايف استسلم في النهاية، وبعدها سحبوه إلى غرفة حيث كان محمد بن سلمان ينتظر مع كاميرات التلفزيون وحارس يحمل مسدسًا. وأظهرت لقطات نشرتها محطات الإذاعة السعودية في لمحة موجزة كيف اقترب محمد بن سلمان من ابن عمه وانحنى بطريقة مسرحية لتقبيل يده وركبته.
وأبرزت “الغارديان” الرسالة التي كتبها ابن نايف لاحقًا إلى مستشاره الجابري: “عندما بايعت ابن سلمان، كان هناك سلاح في ظهري”.
ولفتت إلى أنه تم ترقية تركي آل الشيخ لاحقاً لرئاسة الهيئة العامة للترفيه، وهي وكالة تسعى إلى تلطيف صورة السعودية وتبييض سجلها الحافل بالانتهاكات.
وتابعت الغارديان أنه تم حجب الانقلاب في القصر، وكان الوصول إلى الحقيقة صعب بشكل خاص في بلد تكون فيه المراقبة الأمنية قوية للغاية، لدرجة أن بعض السعوديين يضعون هواتفهم في الثلاجة أثناء مناقشة الأمور الحساسة.
لكن معلوماتٍ بالتنقيط عن أسرار القصر وصلت من قبل عدد قليل من كبار أفراد العائلة المالكة تم تجريدهم من نفوذهم وثرواتهم من قبل محمد بن سلمان، الذي أكمل انقلابه باعتقال أفراد كثر من آل سعود ممن سجنوا وعذبوا.
وأشارت الغارديان إلى أنه بعد انقلاب القصر، لم يكتف ابن سلمان بإبعاد المنافس الرئيسي (ابن نايف)، بل دمّر أيضًا نموذج الخلافة القديم الذي كان يحظى بتقدير الأقدمية والإجماع داخل الأسرة، من خلال إرساء انتقال السلطة مباشرة من الأب إلى الابن داخل فرع واحد من العائلة. وهو ما مكّن محمد بن سلمان من اكتساب سلطة أكبر من أي حاكم سابق، حتى قبل أن يتولى العرش رسميًا.
الصحيفة كانت أوضحت أنها استطاعت الوصول إلى الرسائل النصية بين نايف والجبري لأول مرة من خلال الإيداعات القانونية في أميركا الشمالية، وحكم الإنتربول الذي رفض طلبًا سعوديًا باعتقال الجابري في الخارج.
وأكدت أنه تمت المصادقة على الرسائل الواردة في تلك الوثائق من قبل خبراء، وفقًا لإفادات المحكمة.
تصاعد القمع والانتهاكات بعد الإنقلاب
قالت “الغارديان” إنه في الأشهر التي أعقبت الانقلاب، تحرّك محمد بن سلمان بسرعة لتشديد قبضته على الأجهزة الأمنية، بما في ذلك وزارة الداخلية، التي جُردت من الموالين لنايف والوظائف الرئيسية مثل مكافحة الإرهاب.
وأطلق ابن سلمان أول حملة قمع كبيرة له بعد الانقلاب، حيث قُبض على رجال دين مؤثرين ومثقفين لهم عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي في سبتمبر/أيلول 2017.
وفي الأثناء، استمر الجابري بالاحتماء في تركيا مع أسرته باستثناء اثنين من أبنائه، الذين منعوا في يوم الانقلاب، من ركوب طائرة في الرياض.
وأصرّ محمد بن سلمان على أن يعود الجابري أولاً لمناقشة “ملف حساس للغاية” يتعلق بنايف.
وهذا نص رسالة ابن سلمان للجابري:
“دكتور، أين يجب أن نرسل الطائرة لجلبك؟”.
رد عليه الجابري:
“أي مصير ينتظرني إذا كنت سأعود إلى السعودية؟ أليس الأفضل لي أن أبقى خارج المملكة، وأبقى وفياً لحكمك، وأرفض قول أي شيء يضر وأتعاون مع سموك في كل ما يخدم الصالح العام؟”.
ابن سلمان، بحسب “الغارديان”، أرسل رسالة نصية إلى الجابري مفادها أنه سوف يلاحقه “بكل الوسائل المتاحة”. دفع التهديد الجابري للفرار من تركيا إلى كندا في أواخر عام 2017، وحاولت السعودية اعتقال الجابري عبر الإنتربول، بدعوى أنه سرق أموالاً حكومية تقدر بالمليارات، وضغطت على كندا لتسليمه، لكن مساعيها فشلت.
بعدها في أكتوبر/تشرين الأول 2018، بحسب الجابري، تلقّى تحذيراً من جواسيس في دولة شرق أوسطية، أبلغوه أنه مهدد بالاغتيال وحثّوه على الابتعاد عن السفارات والقنصليات السعودية.
في نفس الشهر، اعترض عملاء الحدود الكندية ورحّلوا أعضاء من فرقة النمر، وهي فريق من القتلة الذين ترعاهم السعودية، أثناء محاولتهم دخول البلاد، عبر تأشيرات سياحية.
وعلى الرغم من نفي الرياض أي تورّط لها، إلا أنّ السلطات الكندية اعترفت بها ضمنيًا، وقالت إنها كانت تحمل نفس الطريقة المروّعة التي قتلت بها فرقة النمر الصحافي المعارض جمال خاشقجي في الشهر نفسه داخل القنصلية السعودية في اسطنبول.
ولفتت الصحيفة إلى أنه تم اعتقال حوالي 40 من أفراد عائلة الجابري والمقربين منه في السعودية في محاولة لإكراهه على العودة.
من بينهم ابنا الجابري، سارة وعمر، وعمرهما 22 و 24. تم القبض عليهما في مارس/آذار 2020، وأدينا في محاكمة سرية بغسل الأموال ومحاولة الهروب من السعودية بشكل غير قانوني. ومن بين المعتقلين كذلك صهر الجابري.
وتستمر الدعاوى المتبادلة بين الجابري من جهة وابن سلمان وشركات سعودية يملكها صندوق الثروة السيادي من جهة ثانية، في وقت تشير وثائق المحكمة التي قدمتها وزارة العدل الأميركية في بوسطن إلى أن المسؤولين الأميركيين كانوا حريصين على تسوية خارج المحكمة بين الجابري وابن سلمان، لمنع أي كشف علني عن عمليات أميركية سرية.
لكن تلك الجهود لم تحرز أي تقدم لأن السعوديين غير مقتنعين بأن الجابري سيبقى صامتًا.
وهذا يقود إلى سؤالٍ مهم جداً؛ ماذا يوجد في جعبة الجابري من وثائق سرية ومعلومات تخص محمد بن سلمان؟
صحيفة “الغارديان” قالت إن الأخير استولى على معظم ثروة محمد بن نايف الموجودة في الداخل والخارج بهدف التنكيل، ولا يزال يحاول الاستيلاء على ما تبقى منها عبر التهديد المباشر.
لكن إلى أين ذهبت الأموال المصادرة؟ هل وزعت على الشعب المالك الحقيقي؟ هل تحولت لخدمات ومشاريع إنمائية؟ أم تحوّلت لرصيد ثروة ابن سلمان الشخصية؟
واستمر مسلسل القمع بقوة في السعودية خلال السنوات الخمس الماضية، بعد استيلاء ابن سلمان المطلق على السلطات والثروات كافة، ولا يزال يتصاعد بوتيرة مخيفة دون اكتراث، ما وضع السعودية على رأس قائمة الدول الاستبدادية التي تنتهك حقوق الإنسان.