تقارير خاصةمقالات

ابن سلمان خلف مِقود الجرّافة.. تهجير قسري وطمسٌ لهوية المناطق

في سبيل مدينةٍ مزعومةٍ تطير فيها السيارات ويتجوّل فيها الرجال الآليين، هدمَ محمد بن سلمان آلاف المنازل، مشرّداً سكانها ومبعداً إياهم عن أرضهم.

هي “نيوم” الحلم الواهي لابن سلمان، الطفل الذي أدمَن ألعاب البلاي ستايشن صغيراً*. يدفعَ اليوم سكان مناطق مختلفة ثمن حلمهِ ووهمِه غالياً: مساكنهم وأرضهم.

هذ الحلم الأرعن ليس السبب الوحيد لتهجير مئات الأُسَر الآمنة، فخلف عناوين التطوير والإنماء والإعمار، تكمن حقيقة يصعب على العائلة الحاكمة إنكارها، وهي الاستهداف الطائفي ومحاولة تشتيت أبناء طائفة معيّنة وإبعادهم عن مراكز الثروات الطبيعية.

منذ أعوام، بدأت الحكومة السعودية عمليات الإخلاء والهدم والتجريف في عددٍ من المناطق، تذرّعت بمشاريعها الحديثة الخيالية وخطط التطوير، وشرّدت دون ترددٍ آلاف الأُسَر ومحَت كل أثرٍ لعشرات الأحياء والشوارع.

البداية كانت عام 2017 في حيّ المسوّرة وسط بلدة العوامية في المنطقة الشرقية، حوصِر الحي الذي بُنيَ منذ أكثر من 400 عام لمئة يوم، قُطِعَت الكهرباء عن سكانه البالغ عددهم 30 ألف شخص ومنعت الحكومة دخول أية مساعدات للحي، بهدف الضغط على السكان لإخلاء منازلهم.

هُدِّم الحي في أيار/مايو، ونتيجة استخدام القوات الأمنية لمختلف الأسلحة الحربية من ضمنها القذائف الصاروخية، راح 28 مواطناً بينهم طفلان ضحيةً للهجوم البربري.

أثناء الهجوم، أُحرِق عددٌ من المباني التاريخية القديمة، تضرّرت المباني بشكلٍ لا يمكن إصلاحه، ودمّرت الحكومة السعودية بهذا تراثاً تاريخياً وثقافياً لا يعوّض.

هذا التدمير الذي أحدثته الحكومة السعودية حصل تحت حجّة التطوير، لكنّ خصوصية الحي الناشئة من كونه كان نقطة انطلاقٍ للتظاهرات السلمية بين عامي 2011 و2012 تَشي بأسباب وخلفيات أخرى للاستهداف.

ما تحاول الحكومة السعودية تحقيقه في المنطقة الشرقية وفي القطيف تحديداً هو أخطر من تهجير الأهالي وإبعادهم عن أرضهم، ما تحاول فعله هو طمس الهوية الحقيقية للمنطقة، ومحو كل أثرٍ حضاري وثقافي فيها، وإلباسها ثوباً ترضى عنه هي ويخدم أهدافها ولا يشكّل تهديداً لها.

في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2022 بدأت أمانة المنطقة الشرقية عمليات التجريف تحت ذريعة تطوير شارع عبد العزيز (شارع الثورة). 14 حياً يقع على  امتداد الشارع استهدفها التجريف، كما تضمّ المنطقة 28 معلماً أثرياً ومساجدَ ومبانٍ دينية. ويُعدّ شارع الثورة مهداً للانتفاضة عام 2011 وشاهداً على الحراك السلمي حينها.

وكانت بلدية محافظة القطيف قد بدأت في عام 2018 إجراءات نزع ملكية نحو 600 عقار تقع ضمن شارع عبد العزيز (شارع الثورة)، شارع الرياض وشمال الناصرة. وكانت مصادر من داخل القطيف حينها كشفت إجبار بعض العوائل على توقيع إقرارات نزع الملكية، مؤكدةً نزع ملكيّات ما يفوق 1200 عقار.

هي القطيف البقعة الخصبة الرابضة على الجهة الساحلية للمنطقة الشرقية، المنطقة التي نالَت من مخزون النفط حصة الأسد، وهي منطقة ساحلية تطلّ على بحر الخليج، ما يجعلها غنيّةً بمعظم الثروات الطبيعية، وفي الوقت عينه هدفاً لأدوات التهجير الحكومية، نظراً لكونها تشكّل نقطة تجمّع أبناء الطائفة الشيعية بالإضافة إلى أنها كانت نقطة انطلاق التظاهرات السلمية ومركز التنسيق بين المشاركين في الحراك، وهذا ما دفع بن سلمان لضرب هذا الاتحاد الثابت بين السكان هناك عبر تفريقهم جغرافياً، ومن أجل هذا الهدف لم يتوانَ عن صناعة كل ذاك الدمار.

في الحويطات كان المشهد شبيهاً، خسِرت القبيلة ذات الامتداد العربي أحد أبنائها برصاص قوات الأمن ظلماً، رفض عبدالرحيم الحويطي التخلّي عن منزله رفضاً قاطعاً، تمسّك الشاب بحقه دون تراجع، فكان مصيره الموت نتيجة رصاصات الشرطة السعودية في نيسان/أبريل 2020.

قبل رحيله نشر عبدالرحيم مقطع فيديو مصوّر يحكي فيه عن نية الحكومة تهجيره وأفراد قبيلته من مساكنهم في الخريبة في منطقة تبوك شمال غرب البلاد، قال إنه لن يترك بيته وأرضه متوقّعاً أن تقتله القوات الأمنية لرفضه قرار الإخلاء.

عبدالرحيم ليس الخسارة الوحيدة للقبيلة، ففي السجون السعودية ثلاثة من أبنائها حُكِم عليهم بالإعدام، بالإضافة إلى عددٍ ليس قليلاً من المعتقلين من ضمنهم سيدة هي مها الحويطي، اعتُقِلت لنشرها تغريدات رفضت فيها التهجير القسري.

تقع الحويطات ضمن المنطقة التي ستُبنى فيها مدينة “نيوم” الخيالية، وتواصل الحكومة السعودية عمليات الجرف في الوقت الذي تشرّدت فيه عشرات الأُسَر دون أن تُقدّم لها حلولاً واقعية فعلية، ودون تعويضاتٍ تكفي لتأمين مسكنٍ بديل.

أهالي المناطق المستهدفة في جدّة بدورهم لم يحصلوا على التعويضات الكافية، 20 مليار دولار صرفتها الحكومة لمشروع جدّة لم تُخصّص منها سوى 1.5 مليون دولار للتعويضات، وهو مبلغٌ زهيدٌ جداً مقارنةً بحجم الضرر الذي أحدثته عمليات الهدم.

بين تشرين الأول/أكتوبر 2021 وأيار/مايو 2022 هدمت السلطات السعودية ما بين 16 و20 حياً تمتد على مساحة 4000 كيلومتر مربع في جدّة، وبشكلٍ عام ستؤثر عمليات الهدم في جدة على 1.5 مليون مواطن ضمن 63 حياً.

إن مواصلة الحكومة السعودية عمليات الهدم والتجريف يعدّ انتهاكاً لحقوق الإنسان، فبحسب القرار 77/1993 التابع للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، يعتبر الإخلاء القسري* انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، لا سيما الحق في السكن اللائق.

ولا يُجيز القانون الدولي لحقوق الإنسان عمليات الإخلاء إلا حين تكون مبرّرة بالكامل، وحين يسمح بها القانون وتجري بما “يمتثل امتثالاً كاملاً لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي”، كما يجب أن تبقى قابلةً للطعن.

هذا ويتطلّب قانون “نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة” السعودي، استنفاد جميع بدائل نزع الملكية، بما في ذلك الاستملاك العام، وتقديم تعويضٍ عادل وإشعارٍ مناسب، وبهذا تكون الحكومة السعودية قد انتهكت القانون السعودي نفسه.

دهَس محمد بن سلمان القوانين الدولية والمحلية على حدٍ سواء، يهمّشها ويهشّمها كل يوم بلا رادع، وبينما يصمت المجتمع الدولي أمام انتهاكاته الحقوقية، تواصِلُ جرافاته هدمَ أسقف البيوت وأزقة الأحياء ماحيةً تاريخ مئات السنين وذاكرةَ من شرّدتهم وحاولت طمس هويّتهم.

إزاء هذه الانتهاكات الجسيمة نطالب الحكومة السعودية بالوقف الفوري لعمليات التهجير القسري والتجريف، ونؤكد على ضرورة تعويض السكان المتضررين تعويضاً عادلاً.

* توصيف أفراد من العائلة الحاكمة، أورده الكاتب ألكسندروس ساريس في كتابه “مؤامرة في القصر”.

* يُعرّف تقرير الأمم المتحدة الإخلاء القسري بأنه “نقل الأفراد أو الأُسر أو المجتمعات المحلية بشكل دائم أو مؤقت ورغم إرادتهم، من المنازل أو الأراضي التي يشغلونها، دون إتاحة سُبُل مناسبة من الحماية القانونية أو غيرها من أنواع الحماية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى