الإنترنت في السعودية: سيطرةٌ وحصارٌ في الفضاء الرقمي

في حين تعتبر الحرية الرقمية امتداداً لحقوق الإنسان الأساسية، تتفنن السلطات السعودية بانتهاكاتها من خلال أساليبٍ تتجاوز فيها قمع الحريات على أراضيها لتتخذ من الفضاء الإلكتروني ميداناً آخر للرقابة والتضييق. فالإنترنت بوسائله المختلفة بات اليوم منبراً لتعزيز حرية الرأي والتعبير في العالم.أما في السعودية، فهو أداةٌ لملاحقة الناشطين والصحافيين، وأي إنسانٍ يختار التعبير عن رأيه أو انتقاد الحكومة وسياساتها عبر تغريدةٍ أو أي نوعٍ من المشاركة الإلكترونية.
خرق المنصات وتعتيمٌ على المعلومات
يبرز خرق السلطات للمنصات الإلكترونية غالباً عند اندلاع أحداثٍ سياسية أو عند بدء أي نشاطٍ حقوقي، فتتبنى مجموعةً من الأساليب التقنية للسيطرة على الفضاء الإلكتروني.
عام 2011، بذل النظام السعودي جهداً كبيراً لقمع احتجاجاتٍ انطلقت في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية.طالب المتظاهرون حينها بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ورفع التمييز الطائفي، وبحريتهم في التعبير عن الرأي والمطالبةِ بالحقوق الإنسانية. هذه الاحتجاجات التي كانت تحمل طابعاً سلمياً بحتاً دفعت بالسلطات إلى فرض تعتيمٍ تام على المعلومات، ففي منطقة القطيف تحديداً مُنعت تغطية الاحتجاجات بشكلٍ كامل، ومُنع الصحافيون من الوصول إلى أماكن المحتجين، مما دفع الناشطين للمخاطرة بحياتهم بغية معرفة آخر الأخبار ونقلها عبر الإنترنت. خطوة الناشطين أدت إلى حجب مواقع إلكترونية إصلاحية أو داعمة للاحتجاج، كحظر موقع منظمة العفو الدولية بسبب نشرها مسودة قانون مكافحة الإرهاب الذي ينتقد قمع الحريات.
في الأزمات السياسية تعتمد السلطات السعودية سياسة حجب المنصات المرتبطة بالأحداث السياسية وإغلاق الوصول إلى مواقع أو خدمات. ففي عام 2017، حُذفت قناة شبكة الجزيرة الإخبارية من قسم “Discover” للمستخدمين داخل السعودية بطلبٍ من الحكومة بسبب أزمةِ خلافٍ نشبت بينها وبين قطر. هذا الإجراء جاء بالتزامن مع حجب كافة المواقع الإخبارية القطرية ووسائل الإعلام التابعة لها.
أساليب السيطرة التقنية: حجب الاتصالات وتعطيل الخدمات والتطبيقات
تمتلك السعودية بنية مركزية قوية تسهّل على الحكومة فرض القيود متى شاءت، وتستغل السلطات قدرتها على تعطيل أو تقييد الخدمات الرقمية كأداةٍ للسيطرة على النشطاء خوفاً من استخدامها للتنظيم والتعبئة.
عام 2015، قامت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية بحجب خدمة المكالمات الصوتية عبر تطبيق “واتساب” مشيرةً إلى أن الأمر يعود إلى القوانين والأحكام المعتمدة محلياً. السعودية فرضت حظراً على خدمات الاتصال عبر الإنترنت كمكالمات واتساب بين عامي 2013 و2017 مما أعاق قدرة السكان على التواصل بحرية. بعد فترة رُفع الحظر عن مكالمات الإنترنت إلا أن السلطات أكدت أنها خاضعة للمراقبة والتصفية المستمرة أي أن استخدامها يبقى مشروطاً برقابة حكومية.
خلال الاضطرابات الأمنية: ممارسة سياسة العزل والتقييد
في محاولةٍ منها لعزل المنطقة التي تقع فيها الاحتجاجات ومنع تسريب المعلومات، تلجأ السلطات السعودية إلى تعطيل الاتصالات محلياً لضمان التحكم بالرواية الرسمية. هذا تحديداً ما حصل عام 2017 مع اندلاع مواجهات العوامية، حينها وردت أنباءٌ عن انقطاع الكهرباء وخدمات الاتصال لفترة لمنع الوصول إلى الأخبار والصور حول ما يحدث.ما تقوم به السعودية يندرج ضمن سياسة مواجهة أي انتقادٍ حقوقي أو اضطرابٍ سياسي، حيث تلجأ إلى التعتيم المعلوماتي لتقييد تدفق المعلومات ومنع توثيق انتهاكاتها التي تمارسها ضد المحتجين خلال قمعها للاحتجاجات.
السيطرة السعودية الرقمية: هيمنة عالمية
لعل من أبرز الأمور اللافتة هو هيمنة السعودية الرقمية على منصاتٍ وشركاتٍ عالمية. السلطات تدرك أهمية مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر (إكس حالياً) وفايسبوك وغيرها من المنصات ولم تتوانَ عن تطويع هذه المنصات لإسكات الأصوات الناقدة.عام 2017، أزالت الشركة وسم #إسقاط_الولاية من قائمة الترند على منصة تويتر بعد تزايد شعبيته وانتشاره بشكلٍ كبير بين الناشطات السعوديات المطالبات بحقوق المرأة، وقد اشتبه معارضون حينها أن الشركة قد تعرضت لضغوطٍ من الحكومة أدت إلى إزالة الوسم.ولا تنحصر الهيمنة على منصات التواصل فقط، إذ تفرض السعودية قراراتها ورقابتها على شركاتٍ عالمية أيضاً كشركة نتفليكس، فعام 2019 خضعت منصة الأفلام لمطالب هيئة الاتصالات السعودية بحذف إحدى حلقاتِ البرنامج الساخر “باتريوت آكت” إثر مرور انتقادٍ يطال ولي العهد السعودي في تنازلٍ أثار جدلاً واسعاً في ذلك الحين.
الذباب الإلكتروني: لحرف الأفكار وتشويه المعارضةوتستخدم السلطات السعودية عادةً جيوشاً إلكترونية منسّقة موالية لها، تستغلها في مواجهة الوسوم الناقدة عبر دعاية موالية تشتت من خلالها الرأي العام وتغرق أي رأي معادٍ لسياساتها. تشير التقارير إلى أن الذباب الإلكتروني الموالي يشن حملات تشهيرٍ ضد المعارضين عبر مهاجمتهم ومحاولة تشويه سمعتهم،مما يجعل إبداء الرأي على الإنترنت محفوفاً بالهجمات والمضايقات.عام 2018، أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” أن السلطات السعودية استخدمت جيشاً من “المتصيدين” على تويتر (إكس حالياً) لاستهداف الصحافي جمال خاشقجي قبل مقتله ومعارضين آخرين. حينها تم توظيف مئات الشباب لمهاجمة خاشقجي والمعارضين وتشويه سمعتهم.
استغلال القانون: قمعٌ للحريات وأحكامٌ ظالمة
“الترسانة القانونية”، سلاحُ السلطات السعودية الذي تتمسك به على مدى عقود طويلة. من خلاله تسحق حرية التعبير الرقمي متذرعةً بقانون الجرائم المعلوماتية وأنظمة مكافحة الإرهاب التي توظفها بشكلٍ فضفاض لتجريم أبسط أشكال التعبير على الإنترنت.يُعتقل الناشطون لإبداء آرائهم بصراحة عبر الإنترنت وتُصدر بحقهم أحكامٌ شديدة القسوة لمجرد نشرهم لتغريدة أو منشور لا يعجب الحكومة. في حادثةٍ صادمة حصلت عام 2023، حُكم على مدرّس متقاعد يُدعى محمد بن ناصر الغامدي بالإعدام لانتقاده السلطات السعودية على منصة إكس. الحساب الذي أنشأه الغامدي تحت اسمٍ وهمي كان يحوي عشرة متابعين فقط ورغم ذلك اعتُقل لإبدائه رأيه بصراحة وحُكم عليه بأشد عقوبةٍ وهي الموت، مما اعتُبر مؤشراً خطيراً لدخول السعودية مرحلةً متقدمةً من قمع الحريات. ولحسن الحظ، تراجعت الحكومة لاحقاً عن حكم الإعدام بحق الغامدي، إلا أنها لم تعلن عن الحكم الجديد الصادر بحقه.تُعدّ قضية سلمى الشهاب مثالاً صارخاً على توظيف القوانين لتكميم حرية التعبير؛ إذ اعتُقلت في يناير 2021 بسبب تغريداتٍ تدعو للإصلاح وحقوق المرأة، وحُكم عليها في البداية بالسجن 34 عاماً قبل أن يُخفّض لاحقاً إلى أربع سنوات فعلياً مع أربع سنوات مع وقف التنفيذ. أُفرِج عنها في فبراير 2025 بعد انتهاء مدة السجن، لكنها لا تزال خاضعة لحظر سفر حتى عام 2029، ما يثبت استمرار القيود حتى بعد الإفراج عنها.
تقارير حقوقية وإعلامية حول الرقابة الرقمية
في السعوديةصُنّفت السعودية من بين أكثر الدول قمعاً لحرية الإنترنت، هذا ما أكدت عليه منظماتٌ حقوقيةٌ عدة ووسائل إعلامٍ موثوقة. في تقريرٍ نشرته مؤسسة “فريدوم هاوس” عام 2022، قُيّمت السعودية كبلدٍ “غير حر” بسبب انعدام حرية التعبير على الإنترنت التي تمثلت بانتهاكاتٍ جسيمةٍ مارستها الحكومة ضد المستخدمين إضافةً إلى قيودٍ صارمةٍ فرضتها على الوصول الرقمي والرقابة الخانقة على المحتوى
Freedom House – Saudi Arab2022 https://freedomhouse.org/country/saudi-arabia/freedom-net/2022
منظمة مراسلون بلا حدود وصفت السعودية بأنها من “أعداء الإنترنت”، بسبب اعتمادها الحجب للمواقع والإعلام المستقل. فالسلطات السعودية تلاحق أي موقعٍ إصلاحي أو حسابٍ على مواقع التواصل بمجرد انتقاد الحكومة أو الدعوة للتظاهر بهدف نيل الحقوق والإصلاح.وفي تقريرها السنوي لعام 2024، أشارت منظمة القسط الحقوقية إلى استمرار السلطات السعودية في استخدام الرقابة الرقمية لاستهداف النشطاء والمعارضين مما سمّته انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان.
تكميم الأصوات والرقابة الرقمية: آثارٌ جسيمة
بالتخويف والقمع يمتنع كثيرٌ من الصحافيين والناشطين عن نشر آرائهم أو مناقشة الانتهاكات التي يعانون منها بشكلٍ علني لإدراكهم الرقابة الشديدة التي تمارسها السلطات السعودية على أي منصةٍ قد يعبر فيها المرء عن رأيه. النقاش الحر بات شبه معدوم عبر الإنترنت بسبب الارتياب، انعدام الثقة في الفضاء الرقمي إضافةً إلى مستوى الرقابة الذاتية المرتفع الذي بات يعاني منه الناشطون الذين يخشون أحياناً حتى الإعجاب بأي منشور كي لا يُفسَّر كمعارضة خوفاً من المحاسبة والعقوبة الشديدة، كما أنهم يتحاشون الدخول في نقاشات حساسة حتى مع الأصدقاء خوفاً من الوشاية أو الاختراق.سياسة الحجب والرقابة التي تمارسها السعودية أدت إلى خنق حرية المعلومات ومصادرها وحصرها في القنوات الرسمية الموجهة مما أدى إلى عزل المجتمع وتحويله إلى مجتمعٍ غير واعٍ لحقوقه ولا للانتهاكات التي تمارس بحقه بسبب التحكم بالسرديات والأخبار التي تصل إليهم. ومن ناحيةٍ أخرى أدى الحجب إلى صعوبةٍ في التواصل بين العائلات والأصدقاء، كما أن الخوف من المحاسبة قلل من الروابط الاجتماعية وعرقل أعمالاً تجارية كانت تعتمد على المنصات الرقمية.هذه السياسات أسكتت أيضاً أصواتاً تعاني من انتهاكاتٍ جسيمةٍ خصوصاً عند الاحتجاج والمطالبة بالحقوق. فالعالم لا يستطيع معرفة ما يعانيه السعوديون في محاولتهم لمطالبة الحكومة بأدنى حقٍ من حقوقهم كالتعبير بحريةٍ عن رأيهم والحصول على حياةٍ كريمة والمشاركة في اتخاذ القرارات والحياة السياسية، مما يضعف من معاناتهم وبذلك ينجو المتورطون في الانتهاكات من المحاسبة.أما على المدى البعيد، فتزداد المخاوف من أن يشكّل القمع الرقمي عقبةً أمام الابتكار والانفتاح على المجتمعات الأخرى والعالم. السلطات السعودية تحدّ من تفكير الشباب وتحرمهم من بيئةٍ تشجّع على التفكير الحر والتعبير عن مكنوناتهم وتمنعهم حتى من النقد الإيجابي الهادف إلى التطوير والإصلاح.
موقف لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان
بدورنا في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان، نطالب السلطات السعودية بمراجعة جذرية لسياساتها الرقمية، وبالوقف الفوري لكافة أشكال الرقابة والانتهاكات التي تطال مستخدمي الفضاء الإلكتروني. إن الأهداف الإصلاحية التي تروّج لها الحكومة السعودية ضمن ما يُعرف بـ”رؤية 2030” تبقى مجرد شعاراتٍ فارغة ما لم تُقرَن باحترام فعلي لحقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية التعبير التي تعتبر أساساً لبناء مجتمعٍ واعٍ، مسؤول، وقادر على المضيّ نحو مستقبلٍ حقيقي من التقدم والتطوير.